يُشرق على الوجود هلال المحرَّم، فيجدِّد في دنيا الإسلام ذِكرى من أروع الذكريات، وأجلِّها خطرًا، وأعظمِها أثرًا في مسيرة الإنسانية، ذكرى حادث لم يَعرف له التاريخ نظيرًا في أمَّة من أمم الأرض، ولا في حياة زعيم من زعماء الدنيا، ذلك هو هجرة المختار- صلوات الله وسلامه عليه- من مكةَ إلى المدينة المنورة، تلك الهجرة التي تجلَّى فيها صدقُ الإرادة، وكمال البطولة، وقوة الإيمان، وشرف الفداء والتضحية، والتي فرَّقت بين الحق والباطل، والخير والشر، وفصَلتْ بين الهدى والضلال، والنور والظلام، وأرستْ دعائم العدالة، وأعلَتْ صروح، فنضرت وجه الأرض، وعدَّلتْ مجرى الحياة.
وكل خير أصابه المسلمون، وكل رشاد ظفرتْ به البشرية، منذ هاجرت رسالة التوحيد إلى يثرب؛ إنما كان ثمرةً طيبة من ثمار هذه الهجرة المباركة.
فما كانت الهجرة إلا تحريرًا للإنسان من رِقِّ الطواغيت، وإنقاذًا للبشرية المعذَّبة من ضلال الجاهلية، وحماقة الطغيان، وإلا حفاظًا على صرح الأخلاق الفاضلة، الذي شاده الأنبياء من قبل محمد بن عبدالله- صلوات الله وسلامه عليه- وجاء هو ليكمل دين الله ويتم البناء؛ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
فقد كانت الهجرة انتصارًا للحق الأعزل- إلا من الإيمان- في مواجهة الباطل المدجج بأسلحة البغي، يريد أن يفتك به، ويكتم أنفاسه، ويعطِّل موكبه عن المسير.
ولم يكن انتصار الحق بالهجرة الكريمة سهلًا لينًا، وإنما كان موضع ابتلاء ومحنة، تعرَّض فيها لأقذر مؤامرة، وأبشع جريمة، ولكن الحق كان مؤيدًا بالجهاد، والصبر والثبات، والتضحية والإيثار، والفداء والشجاعة، والإيمان والثقة بنصر الله؛ {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18].
فقد ظلَّ الرسول العربي- صلوات الله وسلامه عليه- في مكة ثلاثةَ عشرَ عامًا من عمر نبوَّته، يدعو إلى توحيد الله، وشرف الإنسان وكرامته، ويفتح القلوب على الحق والنور، والسيادة والعزة، قال للعرب: حطموا هذه الأصنام، وتعالوا إلى كلمة سواء: ألاَّ نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئًا، ودعا قريشًا- سادة العرب- أنِ اتركوا هذه السيادةَ؛ فما كان بعض الناس أربابًا لبعض، وإنما الناس كلهم سواء، لا فضل لأحد على أحد، إلا بالتقوى والعمل الصالح، وهتف بكسرى وقيصر: أن دعا هذا الجبروتَ الظالم، وتلك الربويةَ الكاذبة، واتَّبعاني أهدِكما سبيلَ الرشاد، ولكن صادفتْه قلوبٌ عليها أقفالها، ونفوسٌ أوصدتْ عن قبول الحق، وانصرفت عن الهدى إلى متابعة الهوى والشيطان، ولم يستجب له غيرُ قلَّة قليلة، تحمَّلت لأواءَ دعوته، وخلافَ قومه وعشيرته، فاستمرأتِ العذابَ في سبيل الحق، واستعذبت الألم في سبيل الله، واشتدَّ الأذى به وبالنفر الذين استجابوا لدعوته، وتنوَّعت مواقف المشركين ضده؛ مِن السخرية والاستهزاء، إلى العنف والاضطهاد، إلى اللين والإغراء، ولكنه ثبت على الحق، وصبر على الأذى، فما ضَعُف ولا خارَ، ولا لانتْ له قَناة، فراحوا يعرضون عليه المال والسلطان؛ ولكنه أبى إلا أن يكون داعيًا إلى الله، وأعلنها قويَّة مدوية، ما زالت تتردد في أسماع الزمان: «والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمرَ، ما تركته، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه».
وأزعج هؤلاء الطغاةَ أنَّ ركْبَ الهدى يتقدَّم، وأن قائده لا يَثْنيه عن هدفه عنفٌ، ولا يغريه لينٌ، وأعيتهم الحيلُ، ولم يجدوا وسيلةً تريحهم من الدعوة الجديدة، إلا بالقضاء على محمد، فقد تشاوروا فيما بينهم، وانتهى رأيهم إلى أن يختاروا فتيانًا أشداءَ من كل القبائل، يرصدونه أمام بيته حين يهدأ الليل، ثم ينقضون عليه ضربة رجل واحد، فيستريحون منه، ويتفرَّق دمُه بين القبائل، فتنوء بنو عبد مناف بثأره، وترضى بديته، ولكن الله من ورائهم محيط، فأطلع رسوله على مكرهم، وأذن له بالهجرة إلى يثرب؛ {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
وفي الليلة الموعودة فيما بينهم لسفك الدم الزكي، وإزهاق روح الدعوة، أحاط النفر الأشقياء بدار النبوة، وكان فيهم أبو جهل، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف، والنضر بن الحارث، وطعمة بن عدي، وزمعة بن الأسود، وغير هؤلاء الصناديد، ممن بلغوا مائة عدًّا.
وما كان بيت النبوة مدينةً محصنة، ولا قلعة مُحكَمة، ولم يكن بداخله عدد غفير، حتى تواجهه قريش بهذا الحشد الجلد بعد تشاور وتحاور، وإنما كان بيتًا متواضعًا، لا يعز على مقتحم، ولا يستعصي على متسلِّق، وإنما كان في داخله مع محمدٍ شابٌّ تحدَّى وحده جموعَ الشباب المتربص، في شجاعةٍ مؤمنة، وفدائية جريئة.
ورقد علي بن أبي طالب في فراش النبي، وغطَّاه- صلوات الله وسلامه عليه- بردائه الحضرمي، وخرج يخطو على اطمئنان الواثق بنصر الله، في مواجهة الموقف الحاسم، الذي صمَّم الكفرُ فيه على تنفيذ مؤامراته، التي أعد لها هذا الحشدَ الفتي المسلَّح، خرج على الجمع المتربص به في عتمة الليل وهو يحثو التراب على رؤوسهم، يتلو قرآنه: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9]، فإذا الشباب المتحفز مغشيٌّ على بصره، مطموس على بصيرته، فقد طلعت عليهم شمسُ الوجود، ونور الحق، فهل تحس منهم مِن أحد، أو تسمع لهم رِكْزًا؟!
ومضى الرسول إلى بيت صاحبه أبي بكر، على موعد معه، ومن هناك خرجا إلى غار ثور، ثم يواصلان الرحلة إلى يثرب.
وبَقِيَ القوم يترقَّبون النبيَّ، مطمئنين إلى أنهم سيقضون به أمرًا يؤمِّنهم على ما هم عليه، ويُبقي على آلهتهم وضلالهم.
وشربتْ قريش كؤوسَ الندامة عندما عرَفتْ أن فتيانها باتوا ليلتهم حُرَّاسًا لعليٍّ، لا متربصين بمحمد، وفشِلتِ المؤامرةُ، وسقط التدبير، وفسد المكر، وأفلتَ الزمامُ، ولم يعد أمامهم مِن أملٍ، إلا أن يدركوه فيحبسوه، أو يقتلوه، فأغلوا الجعل لمن بالقصاص إلى ذلك الغار، فإذا حمامات مستكنة في عشها، وإذا شجرة تمتد فروعها، وتتصافح أغصانها، وإذا عناكب تتشابك خيوطها، ويتكاتف نسجها، فيحلف أحدُهم أن نسج هذا العنكبوت أقدم من ميلاد محمد، ويتجمَّع القوم ويتفرقون، ويتناقشون ويتحاورون، والرسول في الغار وقد أُحيطَ به مِن كل جانب، والقفاة وقريش كلها تملأ الفجاج، وتقذف بلهب الغيظ والحقد، فلا يهن عزمُه، ولا يرجف فؤادُه، ولا يفقد ثقتَه بنصر ربه، ويخفق قلبُ الصدِّيق خوفًا على الرسول، فيُثبِّته قائلًا له: «لا تحزن إن الله معنا»، وبعد ليالٍ ثلاثٍ إذ خمدت نار الطلب، مضى الركب المهاجر في طريقه، تحوطه عناية الله، تلحظه في كل خطوة، وتدركه عند كل عقبة، وتدفع عنه السوء، وتردُّ عنه الكيد، حتى ألقى رحلَه في يثرب، لتتخذ اسم المدينة المنورة علمًا جديدًا لها، فكانت رِدْءَ الدعوة، وسندَ الحق، ومصدر النور والعزة، وكانت وطن المجتمع الجديد، مجتمع الوحدة والإيثار، والعدالة والمساواة، والعلم والحضارة.
وهناك صنع الرسول القادةَ، وراسل الملوكَ، وبعث البعوث، وملأ الدنيا بالنظم والمثل، التي فتحت القلوب بالعدل، والعقول بالعلم، والبصائر بالنور.
ومن هناك، بدأ الزحف المجيد للحملة الإلهية، التي جرَّدها الله على الكفر، والبغي، والجهل، وجعل قائدَها محمدَ بنَ عبدالله، ولم يقف الزحف النبوي ولم يتباطأ، فلم يمضِ شهر بدون معركة ينتصر فيها الحق، وبدون تشريع وتجديد، وعادت الدعوة الطريدة إلى مكة بالفتح الأكبر، تملك الزمام، وتنشر السلام، وتؤثر العفو والصفح، وأكملَ الله الدِّين، وأتمَّ النعمة، ودخل الناس في دين الله أفواجًا.
وهكذا لم تكن الهجرة فرارًا من الميدان، ولا مجرد انتقال من بلد إلى بلد، وإنما كانت هجرة من أرضٍ جثم فيها الشرك، وحكمها الجهل، وسادها البغي، إلى أرض سطع فيها نور الحق، وأشرق منها ضياء التوحيد.
وكانت ثورة على الظلم: ظلم النفس بالشرك والرذيلة، وظلم المجتمع بالطغيان والفوضى.
وكانت حربًا على الضعف الإنساني في شتَّى صوره وألوانه، وانتصارًا للحق مهما بطشتْ به قوة الباطل، وكانت تأسيسًا لأول دولةٍ دعائمُها العدلُ والعلم، والحريةُ والحضارة، والإخاءُ والمساواة، في ظل وحدة الأمة التي رضيها الله لعباده: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
وما أشبهَ الليلةَ بالبارحة! فذكرى الهجرة تطالعنا اليوم، ونحن نواجه قوى الشر والعدوان وهي أشد ضراوة، تريد أن تقضي من جديد على دعوة التوحيد، وتغتصب ديارها، وتذل أهلها، وتردُّ العالَمَ إلى عهود الجاهلية الأولى.
والعبرة الواضحة من الهجرة أن الإيمان بالله، والثبات على الحق، والصبر على المكاره، والكفاح في سبيله- كلُّ ذلك يستلزم النصرَ، بإذن الله.
فليكن لنا في رحاب الذكرى مددٌ يوثق صلتنا بالله، ويربط على قلوبنا في معركة المصير، حتى نصون الحق، ونسترد الأرض، ونطهر القدس، وترفرف أعلام السلام على أرض السلام؛ {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 4- 5].
الكاتب: محمد عبدالوهاب.
المصدر: موقع الألوكة.